عدن من مدينة رائدة إلى قرية قروية

في عدن جرت السنن على غير عادتها ، وتعطلت حتى نواميس الزمان ، فمن الثابت في التاريخ البشري أن المدن والحواضر كلما خطت بها قدم الزمن خطوة ؛ كانت سببا في إقترابها من روح العصر ، والدنو من معانقة الحضارة ، وكلما أوغل الزمن في مسيره ؛ كلما زادت رقيا في سلم المدنية إﻻ عدن ... فحين تقرأ تاريخ هذه المدينة ، وترى حاضرها ، وتعقد مقارنة بين الأمس واليوم ، يصاب عقلك بالذهول ، وجسدك بالقشعريرة ، لما أحدثته السنون في الحيز الزمني الواقع بين ماضي المدينة وحاضرها ، من ترنح للتاريخ ، وتراجع للحياة ، وانحطاط للنظم ، وجمود للثقافة ، وتخشب للفكر ، ونكوص في السير وفقا لنواميس الزمن المضطردة .

عبثت يد الزمان بحاضر هذه المدينة وماضيها على حد سواء ، فلم تترك عوادي الدهر الماضي ماثلا كما كان ، ولم تترك نوائب الأيام للحاضر فرصة الاتصال بالماضي ، مما ولد قطيعة بين ماض هذه المدينة وحاضرها ، حتى يخيل إليك أن ماضيها كان نبتا شيطانيا نهاية بلا بداية ، وحاضرها شيطانيا أيضا بداية بلا نهاية ! لن تستطيع الربط بين الحاضر والماضي لشدة تناقضهما ، وتنافرهما ، واستحالة الجمع بينهما ، لن تصدق حين ترى ما آلت إليه الأوضاع في مدينة عدن بأنها ذات المدينة التي وصفها أمين الريحاني في كتابه ملوك العرب (بأنها المدينة التي جمعت أجناسا ، وديانات مختلفة الجامع الوحيد بينها النظام ، واحترام هيبة القانون ) .

حين تيمم وجهك نحو قبلة الماضي لهذه المدينة ، وترى الفوضاء السياسية السائدة اليوم لن تصدق ما كتبه المؤرخون عن إزدهار الحياة السياسية في عدن ، ووصولها إلى أرقى صورها في زمن مبكر من خلال الأحزاب السياسية ، والنقابات العمالية ، ومؤسسات المجتمع المدني ، و سيقودك نظرك هذا إلى الطعن في صحة تاريخ أول انتخابات تشريعية أجريت في عدن عام1955م .

حين تقف على أطلال الحقبة البريطانية ؛ سترى ريادة اقتصادية ، ورقيا مبكرا للنظم والعلاقات التجارية، وستجد أن المدينة حازت قصب السبق في كل مايربط الإنسان بالحياة ، ووسائل الحضارة ، ومظاهرها العصرية ، يتجلى ذلك من خلال رقي القوانين الاقتصادية ، والنظم المصرفية التي أدخلتها السلطات البريطانية في القرن التاسع عشر التي دشنتها عام 1850م بإنشأت أول مصرف ( بنك عدن ) وكانت عدن أول مدينة تدخلها النظم المصرفية الحديثة على مستوى الجزيرة والخليج .

حين تقلب صفحات التاريخ الثقافي لعدن ، ستصاب بالحسرة ، لانحطاط المستوى الثقافي الذي وصلت إليه اليوم ، خلافا لما شهدته في الماضي من إزدهار للحياة الثقافية ، من خلال كثرة منتدياتها الثقافية ، والأدبية ، ورقي ووسائلها ، و مظاهرها ، ابتداءا من نادي الأدب العربي الذي تأسس عام 1925م مرورا ، بأول صحيفة ورقية صحيفة فتاة الجزيرة ؛ التى أسسها رائد الحركة التنويرية محمد علي لقمان عام 1939م ، وصوﻻ إلى تأسيس أول كيان للكتاب والمفكرين( الرابطة القومية للكتاب ) التي تأسست 1962م عبثت يدا الزمان والإنسان بهذا كله ، فتوارت مدنية عدن ، وتلاشت حضارتها ، وانحسرت مدنيتها في مجموعة أسر لم يعد لها تأثيرا في الحياة بعد أن أصبحت خارج الفلك السياسي ، ونجاح رجال عهد الثورة وماتلاه في استئصال شأفت نسيجها الاجتماعي بالتهجير ، والإقصاء ، والتهميش، ليلقوا المصير نفسه ؛ الذي لقيه الهنود الحمر بعد أن وطئت أقدام البرتغاليين والأنجلو سكسون يابسة الإمريكيتين .

مقالات الكاتب