يكفي مراهقة ونريد وطنًا

الرومانسية تماثل المراهقة ، فلا اجد فرقًا بين الأثنين ، فكلاهما ينتميان لجذر واحد من المثالية والنزق والحماسة وبالمشاعر الفائضة بالصدق ، وايضًا ، بالرُهاب اذا ما بدت الحقيقة  سافرة جلية للعيان .

لهذا السبب أشفق على الكثير ممن اعتادوا العيش في بيئة اقل ما يقال عنها أنها رافضة لكل أشكال التطبيع والاندماج مع واقع يفرض ذاته ، كما وله منطقه وشروطه الموضوعية والذاتية التي لا يغفلها لبيب أو حاذق ؛ فإهمالها لا يعني غير القفز العبثي الى مجاهيل لا تُحمد العاقبة .

البعض لاجئ في كندا أو سويسرا أو بريطانيا  ، وآخرون مغتربون أو مُشرَّدون في منافي عدة ، فبدلًا من ينقلون لنا تجارب تلك المجتمعات في التعايش والحرية وبناء دولة الأمة المستقرة سياسيًا ، والمزدهرة اقتصاديًا وثقافيًا ورفاهية ؛ راحوا يُصدِّرون لنا أزماتهم الشخصية ، ويبثون الفرقة والأحقاد والكراهية ، وكأنَّ اليمنيون ينقصهم عذابات والآم وقرابين ودماء نازفة .

والمأساة أن اصواتًا كاثرة في أوروبا وامريكا ، وبرغم ذلك تجدهم يضيقون ذرعًا بكل صوت مغاير يُغرِّد بعيدًا ، وهذا يتنافى كليًا مع طبيعة وجودهم في دول تُقدِّس حق الآخر في التعبير عن رأيه وفكره ومعتقده .

حسنًا ، يكتبون عن سنغافورة الحديثة المستقلة من الوطن الأم ماليزيا قبيل عقود نيَّفت الستة ، ودونما يقولون لنا عن اسباب هذا التفرُّد الذي تخلَّقت منه نهضة وتطور جزيرة ، وخلال فترة زمنية وجيزة .

لقد غفل هؤلاء حقيقة أن سنغافورة كانت وما زالت بقعة فقيرة الموارد ، فلا نفط أو غاز أو حتى مياه شرب كافية ، فما يحسب للمحامي الشاطر " لي كوان يو  " هو أنه كان زعيمًا للاستقلال والنهضة معًا .

فسنغافورة الجزيرة والمعجزة لم تأتِ هبة أو مصادفة ، فمن إرادة فولاذية لقائد سياسي عظيم ،وشعب جاهز لتحقيق تطلعاته ؛ ولدت معجزة سنغافورة المنسلخة عن أُمُّها " ماليزيا " دون إراقة قطرة دم واحدة ..

أتدرون كيف نشأت وتطورت إسرائيل وفي ظرفية قصيرة لا تتعدى سبعة عقود ؟ وكيف أن دولًا عمرها خمسة ألف عام ما زالت تفتك بشعبها الأمراض السارية ، وقنابل الطائفية ، ورصاص قوات مكافحة الشعب ؟ .

الإجابة ، وباقتضاب شديد ؛ لأن اسرائيل لم يهندسها يهود اليمن أو فلاشا الحبشة أو حتى يهود المشرق ، وانما يهود بريطانيا وامريكا وروسيا وألمانيا وبولندا وفرنسا وووالخ من الفئات الواصلة لفلسطين وفي ذهنها الكثير من الأفكار والخرافات والأساطير .

فأول رئيس كان الدكتور حاييم وايزمان ، عالم كيمياء سُجِّل بإسمه براءة ١٠٠ اختراع ، كما وأول رئيس حكومة " ديفيد بن جوريون " لم تكن أمُّه يهودية كشرط أساسي لليهودة .

انني استغرب كيف أن اليمنيين يعيشون في أمريكا ودونما يستمدون من تاريخها القصير الذي لا يزيد عن قرنين ونصف على استقلالها عن بريطانيا ؟ أليست امريكا القوية باقتصادها وجيشها وصناعتها ولغتها مدعاة للدهشة والإعجاب ؟ .

الا تستحق أُمُّتها الجامعة لاثنيات ايرلندية ولاتينية وانكليزية وهندية وافريقية وآسيوية وعربية ؛ كي تستنسخ تجربتها الرائدة للمواطنة المتساوية في هذه القفار الرازحة لوطأة الاستعباد والعبث والإرهاب والظلم والاحتقار لادمية البشر  ؟

فهل تأملنا جليًا بكون اخر رئيس لامريكا " دونالد ترامب ، ذو الأصل الألماني ، وقبله " باراك أوباما " ابن طالب كيني مسلم وفد لدراسة الإدارة والاقتصاد مطلع ستينات القرن المنصرم .

أما أولئك الذين في سويسرا ، فكنت انتظر منهم استلهام تجربة هذا البلد الصغير إلَّا من تشاطر أهله وتنوعهم الإثني واللغوي والديني ، ومن تسعة مليون بقرة تصدر ألبانها ولحمها وموادها الى مختلف دول العالم .

قرابة ال ١٥ مليونًا نسمة يعيشون في ٢٦ كانتونة ، ودونما فروقات أو تمايز يخل بمبدأ المواطنة المتساوية ، فبرغم أن لغة القوم هناك متفاوتة ما بين أكثرية المانية ومن ثم فرنسية وأقلية إيطالية ..

وبرغم لغات القوم الثلاث ،وفدت الإنجليزية إلى سويسرا بحكم هيمنتها اليوم ، ويبدو أنها تسير وبخطى متسارع بحكم طغيانها المعاصر ، ومن يدري فقد تكون في الغد اللغة الاولى وبلا منازع .

واعجب ما في الأمر أن هؤلاء المنفيون قسرًا أو رغبة - لا فرق - يشاطرونا مأساة العيش خارج سياق المنطق والزمن . كما وهم أكثر من غيرهم يعانون وجع البُعاد عن وطنهم الأصل ، رغم يقيني ان الوطن الحقيقي هو ذاك الذي يمنح الإنسان حريته وكرامته وانسانيته .

هذا اذا ما قلت أن إغترابنا في وطننا لهو اقسى وأمر من فراق المُهجَّرين أو المنفيين لوطنهم ، بعد أن تكالبت عليه ضروب الدهر ، فما من وطن سيشيد ويقام على الحقد والطمع والكره والقتل والفقر والبؤس والحزن ..

لو كنت في موضعهم لقلت لليمنيين : كيف يؤسسون دولة مواطنة ،وكيف لهم أن يغادرون ماضيهم اذا ما أرادوا الانتصار لمستقبل الاجيال القابلة ؟ ، فإذا ما أطلقت نيران مسدسك على الماضي أطلق المستقبل نيران مدافعه عليك ، وفق وصف شاعر داغستان وإيقونتها " رسول حمزاتوف " ؟؟.

نعم ، اليمنيون ليسوا بحاجة لمن يرشدهم لطريق الفرقة والتمزُّق والتناحر فتاريخهم زاخر بالألم والقلق والتواريخ البائسة ؛ لذا فهم بمسيس الحاجة لمن يلهمهم ويوجههم لاستثمار طاقاتهم الكثيرة لبناء وطنهم ونهضته وازدهاره ، فهذه مفاهيم لا تتحقق دون سلام شامل وعادل ، ودونما مجتمعات مدركة بخطورة الانشغال في صراعات ماضوية بلا منتهى .

واذا كان ولابد من أن يثأر هؤلاء ويسخطون ، فليكن من ساسة فاشلين ، ومن أنظمة سياسية مستبدة وفاسدة ، ومن اسماء أحالت أوطاننا إلى إقطاعيات عائلية .

فلهم أن يكتبون شعرًا وان يتغزلون كيفما يشاؤون ، وأن يتحفونا بخيالاتهم البديعة وهي صائلة في فضاءات لا متناهية من الاحلام الوردية والرومانسية . 

كما ولهم مطلق الحرية في التعبير عن كوامنهم الثائرة بالصخب والرفض والمقاومة لكل أشكال التطبيع مع الحاضر أو المستقبل .

ولهم أن يألِّفوا أو ينشروا ما يحلو لهم من تجليات أو قولوا مغامرات سندبادية بحثًا عن جزيرة الذهب المفقود في أعماق المحيط الهادي أو هربًا من قراصنة التاريخ المدون بلغة الحكام السفلة ، وسدنهم من الموالين الفاسدين واشياعهم القتلة للرجال والأحلام   ..

ما أود قوله لهؤلاء : إنَّ حياتنا البائسة لا تحتمل المزيد من البغض المتنامي كالبعوض في هذه البلاد  ، كما ولا يزيدها الشحن العابر لفضاءات لا متناهية غير التمزق والتناحر والهلكة .

أتدرون من هو أكبر القتلة ؟ إنَّه ذاك القاتل للاحلام والافكار والتطلعات المشروعة . وصدقًا اقول لكم : يا ليت تجهدون ذاتكم للبحث عن ممكنات التعايش والتشارك والتسامح بدلاً من اجهادها في إفراط ذميم وناسف وممزق لما بقي من وشائج وآمال وممكنات .

كان بودي الكتابة عن اليمن ، البلاد التي نعيش فيها ونعرف ادق تفاصيلها ؛ لكن البعض أبى إلَّا ان يدفعنا الى عالمه المُتخم بالمثاليات السفسطائية ، وبالمزايدات الثورية ، وبالشعارات الديموغوجية والشعبوية ، وبالكتابات النرجسية المتعالية .

شغلنًا هؤلاء زمنًا ، بحثًا عن برزخ الوطن المفقود ، الوطن الفردوس الذي كنا وسنكون فيه مجرد قطيع خرفان الى وقت طلب الثعابين ، الوطن الذي خُيل لهم أنّه واحة في بلاد الغال أو جزر الباهاما  ، وليس في بلاد اليمن .

مقالات الكاتب