عدن .. خواطر عابرة 1

عدن ، مثار دهشة وفضول ، وفي الوقت عينه مدعاة للحزن والبؤس ، فما من مدينة في الدنيا إلَّا وتنحت في ذاكرة زائرها اشياء من سحرها- وايضًا– من قبحها . 

المؤسف أنَّه وبمضي الوقت تتوارى الذكريات الجميلة والمدهشة مطوية في تابوت النسيان ، أمَّا القُبح والخوف والحزن فتشغل حيزًا لها في الذاكرة البعيدة ، ما يجعلها طاغية في بروزها وحضورها .

أيها المُتعبُون من عناء البحث عن عدن في هوية السالكين والساكنين على حدٍ سواء ؛ عدن ستجدونها في وجوه أطفال الأحياء الفقيرة ، وفي روح الإنسان الفائضة بالطيبة والألفة والمحبة ، وفي محيأ وهندام رجل السير الواقف في هجير الصيف .

ستعثرون عليها في نظام يُحترم من الجميع ، وفي صنبورة المياه ، وبرَّاد المطبخ ، ونظافة الحي ، وصيرورة تيار الكهرباء ، وقبل هذه جميعًا ، سلام وأمان وتعايش وتسامح ، فدون هذه الأشياء لا معنى لعدن أو سواها من الأوطان .

فما قيمة المكان من دون مهجة جذلة ؟ وما أفضلية جبل شمسان المنيف أو تلال حُقَّات أو شطآن صيرة والغدير  ؛ من دون مصافحة عينيك لوجوه مسفرة مشرقة .

فهذه مجتمعة لا تضاهي ضحكة جذلة بالامنيات ، كما ولا تماثل نظرة شغوفة بالأحلام ، ففي العينين تسكن سعادة وبؤس المدن والناس ..

تساءلت وبحسرة وحيرة المُحب : هل هذه هي عدن التي شغفت الأفئدة وأسرَت الألباب ؟  وهل هذه هي أحلام أهلها المنافحين زمنًا طويلًا لأجل الحق والكرامة والمساواة والحرية والتسامح والرفاهية ؟ .

وماذا بقى هنا من إرث الرجال العظام الحالمين بكونية الإنسان ؟ وأين توارت وجوه ثارت ردحًا على الظلم والاستعباد ؟ وكيف طغت واستبدت ألسنة لاهجة بالشوفينية والرجعية واللصوصية والانتهازية والنفاق ؟.

فشتان ما بين الوجهين ؛ فوجه يمنح المكان وهجًا من نزاهته وكفاحه لأجل غايات نبيلة وعادلة ؛ ووجه اخر يغشي ضوء النهار بسخام البارود والمصفحات .

فكيف ضاق المكان بقصائد الفضول ، وفؤاد نجم ، ودرويش ، والصريمي ، والقمندان ، والمحضار ، والجابري ، والديلمي ، والبردوني ، وسبيت والارياني ، ولطفي أمان ، والشيباني وووووو ؟ .

وكيف باتت زوامل " داعش " و " القاعدة " و " الحوثي " و من على منوالهم ، طاغية ومستبدة تشنف لها أذني اغلب الشباب التائه ؟ وكيف هاجرت اصوات بلفقيه ، وأيوب ، وفيروز ، والمرشدي ، والعطروش ، وبن سعد ، وأحمد قاسم ، والسِّمة ، وأحمد فتحي ، والآنسي ، والكبسي ، وعبد الباسط ، وفيصل ،والعزاني ، والحداد ، والزيدي ، وأمل كعدل والقائمة لا تنتهي من القامات الفنية والوطنية .  

فهل هذه هي عدن الواقفة الآن بوجه الزمن الصاخب والعابث وبلا حيلة أو وسيلة ؟ فحتى إنارة العم " اديسون " المضيئة لأكواخ الفقراء  ومخيمات المشردين وفي كافة بقاع الدنيا ، صارت ترفًا ارستقراطيًا لا ينعم به غير الميسورين والفاسدين ؟ .

عدن جوهرة ، ولكن في سوق الودق والتنجيم والمزايدة؛ لا فرق هنا . كما وعدن حسناء فاتنة ، ولكنها شاخت وهرمت أو قولوا إن شئتم : ماتت حسرة وندامة على عمرها الضائع أو في انتظار  عاشق متيم لم يأت .

نعم ، عدن وئدت منذ زمن بعيد ، وتحديدًا حين أستبد فيها الصوت الواحد والرأي الواحد والقائد الواحد ، فمن وقتئذ لا مكان فيها لغير الولعين بالمغامرات النزقة والمجنونة ، كما ولا متسع فيها لغير تكرار الخيبات والتجارب الفاشلة المنهكة ؟! .

مقالات الكاتب