كائن الكهف

وهو يقلبه بين كفيه، وبعد أن يئس من عودة الحياة إلى عينيه، قال: “لقد اعتقدنا أن آخر شبيه به انقرض منذ مائة عام، سيكون هذا اكتشافاً مهماً في علم الأحياء.”

كان “كيفن دم” -وهو عالم كائنات دقيقة قادم من بلجيكا- يقف داخل كهف جبينة بسقطرى تحت شلال ضوء يتمكن من النفاد عبر ثقب قرب بوابة الكهف وقد امتزج في وجه العالم البلجيكي الفرح والحزن

فرحاً بالاكتشاف وحزين على فقدان الكائن متناهي الصغر القدرة على الإبصار الذي كتب العلماء أن أحداً منها لم يعد له أثر منذ عشرة عقود. سيُسمى هذا الكائن الموجود فقط في كهف بجزيرة سقطرى “كيفن دم”، نسبةً الى مكتشفه البلجيكي والذي أكد أن أبرز خصائص هذا المخلوق المخبّأ في الكهف، فقدان الرؤية عقب التعرض لأشعة الشمس. قال العالم إنه يفقد النظر تماماً بمجرد أن يخرج من الكهف ويرى الضوء. بعدها لا يتمكن من استعادة الرؤية.

يحتاج الوصول إلى عمق ذلك الكهف إمكانات نوعية، فثمة منحدرات شاهقة، وهناك شلالات ماء وأماكن معتمة تمتد لمسافة عشرة كيلو مترات وبحيرات صغيرة يمكن أن يغرق المرء فيها ولا يُعرف عنه خبراً بعدها.

لكن اكتشافات عدة كانت في انتظار فريق كيفن المكون من أربعة عشر عالماً من جامعات براسل ببلجيكا وكامبردج ببريطانيا وبون بألمانيا وجامعة السوربون بفرنسا. أبرز تلك الاكتشافات هي ذلك الكائن متناهي الصغر الذي لا أحد يعلم كيف يدمر الضوء قدرة عينيه على الابصار.

ستغرق الصحافة المحلية وقتها -أي مطلع القرن الحالي- في بحيرة السياحة ومناقبها وامتيازاتها، وسأجد فسحة كي أهتم بمن يفقد النظر بمجرد الخروج إلى الضوء. إلى حد أن علي علوي -وهو صحفي يحمل سقطرى بكهوفها وأشجارها بقلبه أينما ولى- سيعتب عليّ إذ تركت كل شيء واهتممت بمخلوق أثره محدود فى علم الاحياء حتى.

توالت السنوات وتكاثر المخلوق الأغرب داخل ظلمات الكهف ولم يعد للجزيرة أحد من الباحثين واكتفى “كيفن دم” بحمل قطعة كلسية ورفعها في كل محفل علمي وترديد قوله: “عبر هذه القطعة رأيت عشرة آلاف سنة”.

حُرم علوي من دخول الجزيرة حتى اليوم بعد أن سكنها نصف عمره، ونسيت الأمر تماماً بعد شغف متابعة القصص غير المهمة من وجهة نظر من أشرفوا سابقاً على ما نكتب.

لكن أمر عالقين يمنيين في جزيرة بعيدة عن موطنهم اسمها جيجو الكورية سيعيد الي ذهني تلك الأضواء وذلك المخلوق الذي أدت فترة بقائه في العتمة إلى  اعتياده على الظلام وفقدان البصر في الضوء.

عندما وصل الـ500 هارب من الحرب قيل لهم: أنتم لستم لاجئين، ببساطة أنتم منخفضي المهارة. رفع أهالي الجزيرة هذا الشعار: “القادمون من اليمن متدنو المهارة وباحثون عن أجر اقل.”

التحق عدد منهم بالعمل في المطاعم وفي ذلك تأكيد لما رُفع في أرض لا يرتادها الفقراء كثيراً. قالت “لوفيغارو الفرنسية” -وفق ترجمة بشير زندال- إن القادمين متهمون بمحاولة أسلمة المجتمع وباحثين عن تحسين وضع اقتصادي. من وجهة نظر العالم لا يستحق الحماية من يبحث عن تحسين مستواه الاقتصادي وإن كان يوشك على الموت جوعاً. لا بد أن يكون مهدداً بالموت بالعنف.

لا مهارات لدى اليمنيين. هذا هو الضوء الذي يفقدنا الرؤية عند الخروج من بلد جعلها حكامها كهفاً فيه بحيرات تموت فيها دون أن يعرف من يسير رفقتك، ويظل يتحدث معتقداً أنك ما تزال تسمع كلماته. منخفضو المهارة نحن. هذا هو الضوء الذي يقتلنا ولا نجد حتى تضامن نصف وجه “كيفن” الحزين. يحتاج اليمني -وربما مواطن الشرق المشتعل- إلى إعادة تأهيل، إلى التدقيق في مكامن ضعفه، وما أغزرها.

حين تستقبلك الأمم مجبرة عليك وكأنك خطأ تاريخي، تعمل على تقييد اسمك بين من يعاد تأهيلهم. تنظر إلى الأربعين عاماً التي قضيتها وتكتشف أنها كانت سيراً في العتمة واعتياداً على الظلام.

تلتفت لترى ركامك عندما تخرج من الكهف. يحمل السكان الأصليون ومن كانوا يوماً أكثر بؤساً منك اللافتات، ويضعون الكمامات على أنوفهم ويرفعون الشعارات، وتحت مطر السماء الواحدة يطلبون منك العودة من حيث أتيت: “جيت اوت”. يطوفون بها أمام عينيك وأنت لم يعد لديك بصر.

فقط محجر وزهر فيه.
______________
المراجع
محمد نجيب _ دراسة مكتب البيئة سقطرى
مقال سابق _ علي علوى
بيتر ديجست _ ورقة بحثية جامعة براسل بلجيكا
كيفن دم _ ملخص بحث براسل
لوفيجاروا _ بشير زندال