“رواني” أحدث منتج يمني في ماليزيا

البارحة وأنا أتناول قطعة “رواني” في قلب بلاد الملايو تذكرتُ قدومي إلى هذا البلد عند أول تعرف على نمط الماليزيين في تناول الأطعمة المحلاة بالسكر، حين تفاجأتُ بالمذاق الحلو لقطعة لحم الضأن، ليس من المعقول أن الطباخ قد وضع السكر بدلاً عن الملح! إلى أن أدركتُ أن للناس مذاقات مختلفة من بلد لآخر. 

الرواني حلاوة يمنية الصنع، تُصنع في مناطق الشمال المرتفعة صنعاء وما حولها، ومن هناك اُعيد انتشارها في بقية أنحاء البلاد، لا أدري ذلك بالضبط، لكني أعلم أن اليد اليمنية قامت بتطوير الكثير من المنتجات وصبغتها بالصبغة اليمنية الخاصة، إلى أن صارت منتجات يمنية خالصة. فطبيعة الإنسان اليمني الابتكارية أيضاً قادرة على التطوير، ومع كل الظروف التي يمر بها المواطن اليمني الآن في الداخل والخارج، إلا أنه يواصل إثبات وجوده، من خلال عملية الإنتاج، وهي عملية اقتصادية تمر بمراحل تحويل المواد الخام الأولية إلى منتج مختلف، والعملية برمتها تعد أولية وليست ذا قيمة مالم تتبع بعمليات أكثر تعقيداً. 

متى يكون للمُنتَج-أي مُنتَج- قيمة؟ عندما يتم تسليعه وتغليفه وضبط الجودة لتأتي عملية عرضه وتسويقه للمستهلك. وهذا ما قصدت به أعلاه بالعمليات الأكثر تعقيداً، ففيها يخرج المنتج من مستواه المحلي عديم الجدوى والقيمة والفائدة، إلى المستوى العالمي حيث الجدوى تتطلب المزيد من دراسات السوق، وترتفع قيمة المنتج بحسب قدرة المُسوق على فرضه كمُنافس في السوق، وذلك يتطلب المزيد من الدعاية والاشهار والترويج والاقناع. إذا كل منتج عبارة عن فكرة يتم ترجمتها عملياً على أرض الواقع، وتحولت من مواد خام أولية وبسيطة إلى منتج ذو قيمة أعلى من قيمة المواد الخام الداخلة في تكوينه. في القدم أنتج الإنسان اليمني من خلال نشاطه الزراعي المتقن الثمار والحبوب واكتشف أن عملية تجويد المحصول تحتاج إلى عمليات منتظمة من انتقاء الذري والرعاية حتى الحصاد، تتخللها عمليات شاقة في حرث الأرض وسقي الزرع، وسبقتها عمليات استصلاح الأرض واستخراج الماء من باطن الأرض أو الحفاظ على ما ألقته السحب من خلال صناعة الأحواض والحواجز والسدود المائية.

تمت عمليات الاستصلاح الزراعي في اليمن القديم لأجل زيادة المنتج -المحاصيل الزراعية- ولذا لجأت قوى المجتمع والسلطة إلى عملية بناء المدرجات في قمم الجبال، بعد أن أتمت عمليات استصلاح الأودية والسهول، هذه العمليات المُضنية تشبه عمليات أخرى تمت في بلاد الشام والهلال الخصيب ومصر ومناطق أخرى من آسيا الكبرى في الهند والصين، أتصور أن بناء سلال الغذاء على قمم الجبال اليمنية رافقه وجود نظام اقطاعي قاسي يشبه نظام بناء الأهرامات في مصر وبناء سور الصين. وكذلك بناء السدود والكرفان والحواجز المائية. 

الحضارات القديمة تشبه بعضها من حيث الأنظمة القائمة آنذاك، قلة حاكمة ومتسلطة تجبر الأكثرية على العمل بالسخرة لتنعم القلة بالإنتاج، إلا أن ما يُميز حضارة اليمن من خلال النظر إلى ما تُنتجه بقايا المدرجات الجبلية هي وفرة الغذاء، وأنها حضارة قامت على تسخير كافة الموارد لزيادة علميات الإنتاج الزراعي، الوديان والسهوب والجبال تنتج المحاصيل الزراعية، بينما مثلاً الاهرامات بُنيت لإقامة طقوس الأسرة الحاكمة لكنها لا تنتج محصولاً ذو قيمة.

وادي النيل في مصر كان كفيل بمهمة الإنتاج الزراعي الذي يكفي المجتمع هناك، وهناك اختلاف بين الحضارتين اليمنية والمصرية الأولى زراعية لكنها تعتمد على مياه الامطار، بينما الحضارة الأخرى حضارة نهرية لديها الكفاية من المياه للقيام بالزراعة. كما أن سور الصين كان لحماية الأسرة الحاكمة واستهلك جهود مئات الألف من البشر، ولا يُنتج محصولاً معيناً، لكنه أنتج استقراراً لما خلفه. التشابه الحضاري يكمن في وجود الأنظمة الطبقية الحاكمة التي مارست سلطاتها في هذه البلدان، وإلا لما كانت هناك حضارات بهذه الضخامة. 

في اليمن اليوم لم يعد من المدرجات إلا بقايا في بعض المناطق، وبعض المناطق صارت الجبال جرداء تتوشح بالسواد بعد أن أتت عليها عوامل التعرية وحولتها من جبال خضراء تحمل سلات الغذاء النموذجي المتعرض لأشعة الشمس في بيئات مختلفة إلى قمم جرداء، ويبدو أن من تبقى من سكان اليمن منذ انتهاء الدولة الحميرية قبل 15 قرنا مجرد مستهلكِين للبنية الحضارية القديمة ولم يطوروا شيئا فيما يتعلق بالحاجة إلى الإنتاج.

مجمل تعاريف العملية الإنتاجية تشير إلى ممارسة المجتمع للأنشطة البشرية المختلفة زراعية وصناعية وفكرية ومعرفية، فالمجتمعات تُنتج لتعيش، ويختلف في ذلك عالم الاقتصاد آدم سميث عن كارل ماركس، يقول آدم سميث: “الإنتاج عبارة عن مجموعة من الجهود والنشاطات التي يمارسها الإنسان لغايات الحصول على أموال ماديّة وخلقها، ويشمل التعريف هذا المنتجات الزراعيّة والصناعيّة”. 

ويعتبر نمط الإنتاج مفهوماً مركزياً في التصور المادي للتاريخ، وقد حدد ماركس بوضوح معنى نمط الإنتاج: “في إنتاج الناس الاجتماعي لحياتهم يدخلون في علاقات محددة، ضرورية ومستقلة، وهي علاقات إنتاج تطابق درجة معينة من تطور قواهم الإنتاجية المادية، ويشكل مجموع علاقات الإنتاج هذه البنيان الاقتصادي للمجتمع، فنمط إنتاج الحياة المادية هو شرط العملية الاجتماعية والسياسية والعقلية للحياة بوجه عام”. بيد أن نمط الإنتاج في الرأسمالية قائم على مسألة الأجرة، ويرى ماركس أن الأجرة ليست حصة العامل في البضاعة التي أنتجها بنفسه، فهي تمثل جزءًا من بضاعة موجودة مسبقاً، يشتري بها الرأسمالي كمية معينة من قوة عمل مُنتَجة.

صديقي أحمد الويناني قدم إلى هذا البلد للدراسة، بعد إنهائه البكالوريوس اكتشف أن التعليم النظري مجرد رسم يشبه الفيزياء الفضائية، فالدراسة شيء والواقع شيئاً أخر، ولذا ظل فترة يتحدث عن العمل وسوق العمل وفرص العمل ونثر العديد من المشاريع في الفضاء الأزرق، كنت أقرأ ما يكتب، وكلي ثقة أنه سيصل إلى قرار مهم، تبدأ الفكرة بمطاردة الشخص حتى تصير حلمه الذي يراه في الواقع، وإذا وصل إلى مرحلة الهوس بها تحولت هي إلى واقع. قبل حوالي ستة أسابيع بدأ صاحبي يُسوّق لمنتجه من الرواني، مستخدماً الدعاية التي تفطس الواحد من الضحك، كونها تقليدية، البارحة فقط وجدت أنه حوّل حلوى يمنية من الصحن ” أو التبسي” إلى سلعة مغلفة، هذه الفكرة عجز عنها كثير غيره ممن التقيتهم هنا في هذا البلد وفي غيره، عشرات المطاعم اليمنية الآيلة للإفلاس بسبب أنها تفتقد للتسليع والعرض وتحاول البيع بطريقة الدكان في البيئة اليمنية، بيئة وثقافة العمل هنا مختلفة، يبدو أن صديقي اكتشف كل ذلك.

مقالات الكاتب