الثورة.. مكافأة للجلاد وعقاب للضحية

لا أعلم أين هي المشكلة تحديداً؟ هل هي في ذهن وأداء رئاسة الدولة أم في دائرته الضيقة المحيطة أم في مكون الحكومة العجيب، أم في طبيعة التعقيدات القبلية والعسكرية الحائلة دون اتخاذ إجراءات ثورية كفيلة بزجر الخارجين وطمأنة الداخلين؟.

أنظر وأتعجب كيف أن من تم عزلهم إثر ثورة شعبية عارمة ؛ صاروا اليوم إما سفراء أو وزراء أو قيادات عسكرية وأمنية ودبلوماسية ومدنية؟ وكيف أن من قتلوا المتظاهرين العزل، ونهبوا مقدرات وأموال بلد، وقمعوا الحريات، وخربوا المنشآت والممتلكات ؛ تم ترقيتهم وترفيعهم بدلاً من محاكمتهم ومحاسبتهم؟.

 يقابل هذا الغنج والدلال ـ الذي قوبل به رموز الرئيس المخلوع ـ توجد قطيعة تامة مع كفاءات وقيادات جنوبية لم يلتفت لها مطلقاً، ويقابل ترقية مسئولي النظام العسكري القبلي الفاسد، لم نر في الواقع إعادة الاعتبار لكثير من القيادات السياسية والعسكرية والدبلوماسية والمدنية التي تم إقصاؤها وحرمانها من وظائفها واستحقاقها ومنازلها.

فرغم أنها ضحية حرب شاملة انتهت بهزيمة طرف وانتصار طرف، إلا أنها ومنذ انتهاء الحرب يوليو 94م وهي محلك سر ! إذ مازال كثير من المنتمين لحزب (خليك في البيت ) رهن الإقامة الجبرية ومنذ ما بعد حرب 94م، كما أننا لم نسمع بثمة قرار أو توجيه أو توجه يمكنه إزالة الضرر والغبن الناتجين عن سنوات من الإقصاء والنفي والقتل والنهب.

لم أتحدث بعد عن حجم التعويضات المالية الضخمة المقررة لضحايا الأزمة السياسية – وفق تعبير رسمي للثورة – فيكفي القول هنا إن عشرات مليارات الريالات وضعت في مشروع موازنتها للسنة القادمة 2013م لا أقصد هنا مبلغ مائة مليار ريال كمرحلة أولى لتعويض سكان العاصمة أو غيرهم ممن خسروا مالهم ومساكنهم وفلذات أكبادهم، لكني أعني أولئك الذين يكافأون ويعوضون بدلاً من عقابهم وسجنهم على جرائمهم وانتهاكاتهم.

فكيف يمكن دعوة الجنوبيين للحوار الوطني، فيما الفعل السياسي لا يوحي بثمة توجه والتفاتة نحو معاناة كبيرة طالت معظم المحسوبين على نظام الجنوب ودولته وساسته وتمثيله المختل والمنقوص؟ لكم أن تنظروا إلى ماهية القرارات والمعالجات المتخذة خلال المدة القصيرة المنصرمة ؛ لتدركوا ماهية الغبن والضيم والنفي والضرر الذي وقع على رؤوس هؤلاء الذين يرفضون الحوار الوطني؟.

بعد انتخاب الرئيس عبد ربه وبأيام قليلة سألني رئيس تحرير صحيفة ما إذا كان الرئيس المنتخب لتوه بمقدوره قيادة البلاد في ظرفية حرجة كتلك – وأيضاً – ماهية المطلوب من الرئاسة الانتقالية إزاء محنة ونكبة الجنوبيين المنافحين الآن لفك الارتباط واستعادة الدولة؟.

 قلت لصديقي حينها بأن الرئيس يمكنه فعل أشياء تاريخية واستثنائية لو أنه أحسن التقدير وأمسك العصاء من طرفها لا من وسطها! إننا نتحدث عن رئيس انتقالي واستثنائي ؛ لا فقط توافقي ومؤقت ليس بيده خيوط اللعبة كاملة ؟ دعك يا صديقي من هذه الوضعية المعقدة ؛ فما من شك أنها ستنفرج وستزول واحدة تلو الأخرى عاجلاً أم آجلاً.

 إنها تعقيدات صنعتها ثلاثة عقود ونيف من الاستئثار والهيمنة والحكم الفردي العائلي العسكري القبلي، إرث مثقل زاخر بالمشكلات والتعقيدات، لكننا بالمقابل إزاء رئيس صاعد لسدة الرئاسة ويمتلك من المشروعية والدعم ما لم يحظ به رئيس قبله وربما بعده.

سأحدثكم عن الجانب الايجابي الواضح في شخصية الرئيس الانتقالي، الملمح الأول أثق بكونه سيتخطى عتبة الحالة الراهنة وذلك لعدة أسباب منها إنه بات محل إجماع وطني وإقليمي ودولي، ومن ثم إنه لم يسعَ لمنصب الرئاسة بل المنصب هو من سعى إليه بناءً على إتفاق ومبادرة ورعاة وفي لحظة حرجة ونادرة الحدوث.

 الأمر المهم هو أنه صار رئيساً للبلاد وجميعنا يعرف معنى أن تكون رئيساً لبلد مثل اليمن، أما السبب الذي جعلني متفائلاً كثيراً هو أن الرئيس لم ولن يكون بسوءة سلفه، ففي النهاية الرجل لديه من الإرث والثقافة والانضباط والتربية ما تجعله لا يفرط مطلقاً بالدولة ونظامها ومؤسستها.

أما النصف المبهم والغامض الذي يفزعني ويدفعني للتشاؤم، فيمكن إيجازه بسببين: أولهما بالطبع ذو صلة بمنصبه السابق الذي شغله شكلياً وهامشياً قرابة عقدين من الزمن،فما أخشاه هو أن الرئيس عبد ربه مازال أسيراً لحقبة من التهميش والخوف، والصلاحية المحدودة، والسلطة الممنوحة له والتي لا يجب أن تتخطى الهامش المتاح، بحيث يقتصر الدور على القضايا الروتينية الاعتيادية والمناسباتية، فهذه جميعها ستجعله متردداً ومتوجساً و ضعيفاً لا يقوى على اتخاذ القرارات الجريئة.

السبب الآخر هو إذا ما بقى الرئيس مسكوناً بهاجس ما وقع سنة 94م أو يناير 86م، فأنه لن يستطع مغادرة مربعه الماضوي، وهذا وحده كفيل بتحطيم جسر مهم يؤدي إلى المستقبل، فكما يقول حكيم داغستان وشاعرها رسول حمزاتوف : طلقة مسدس على الماضي تعني قذيفة مدفع على المستقبل.

قلت مثل هذا الكلام وسأعيده وأكرره ؛ فنجاح وإخفاق العملية الانتقالية سيكون رهن ما يحرزه الرئيس هادي من تحرر ذهني ونفسي وسلوكي،أدرك جيداً مقدار الذكريات المريرة التي تركتها مأساة يناير، كما وأعلم جيداً بأن مصيبة وكارثة حرب 94م مثلت له وأمثاله الجنوبيين النازحين الفارين فاتحة لبلوغ سلالم المجد والشهرة واثبات الذات، كما ويحسب لها توزير ومن ثم ترئييس قائد عسكري جنوبي لم يكن بحسبانه قط صعوده إلى سدة الرئاسة.

فاليوم أتحدث عن رئيس جمهورية لليمن، وينبغي أن يكون كذلك وإلا فإنه سيجد ذاته أسيراً لوهم الخوف من عودة الأمس، أو مثلما جاء على لسان الشيخ طارق الفضلي حين أورد مقولة نائب الرئيس سابقاً: اسكتوا وإلا أصحاب يافع والضالع سيعودون ! فهل يتوقع أحدكم أننا سنعبر إلى المستقبل من دون التصالح مع الحاضر أو التسامح مع الماضي؟.

ليست الإشكالية تتعلق بتطبيق نقاط الحزب الاشتراكي الاثني عشر أو تكون هذه الأولويات عشرين أو ثلاثين ومن بنات المشترك أو لجنة الحوار،لكن حين تصير المشكلة معضلة مزمنة يعاني منها صاحب القرار – باعتباره المعني الأول بلملمة هذا الشتات والتمزق - فذاك يعني كارثة حقيقية، وحتماً ستكون قاصمة للحوار الوطني ولعملية الانتقال برمتها.

الرئيس الجنوبي الأسبق/علي ناصر محمد كان قد طلب من القيادة السياسية الانتقالية أن تسارع إلى اتخاذ إجراءات جدية وملموسة لاستعادة الثقة ولتسهيل مهمة الحوار الوطني،لكننا وعندما ننظر في واقع الممارسة فلا نرى شيئاً ملموساً ذو أهمية وقيمة أو يمكنه إعادة نوع من الثقة إلى الكثير من الجنوبيين الذين ندعوهم للالتحاق بركب المتحاورين فيما التعامل معهم يكون هامشياً وتكميلياً وكأن المسألة ليست إلا تمثيلاً شكلياً للجنوب وقضيته الهامشية.

قلنا مراراً بأنه وقبل دعوة فصائل الحراك للحوار القادم يجب على القيادة السياسية الجديدة تجسير الهوة الناتجة عن سنوات من الهدم والتخريب والإقصاء والنهب والهيمنة والقتل والضيم والشك وفقدان الثقة وغيرها من الممارسات الخاطئة، وعندما نجدد دعوتنا هنا فلأننا ندرك مدى الضرر والخوف والإحباط وفقدان الثقة، كما وأننا على الأقل نعلم ماهية الحلول المطلوبة؟.

فكل ما نحتاجه في هذه اللحظة التاريخية النادرة الحدوث هو إدارة استثنائية لديها القدرة والشجاعة والإرادة ما يجعلها تبني وتشيد لجسور من الثقة والأمل والطمأنينة، فإذا لم تقم قيادة البلاد بخطوات عملية جريئة وخارقة لجدار من الشك والقطيعة والعزلة، فانه يصعب إقناع الكثير ممن تكونت لديهم ورسخت فكرة الحل بعيداً عن عملية حوار وخارج سياق التوحد.

 فهلاَّ أثبتت وبرهنت قيادة البلاد أنها عند مستوى المسئولية التاريخية والسياسية والاستثنائية الموكلة لها؟ وهل تداركت وقامت باتخاذ إجراءات عملية من شأنها إزالة كثير من رواسب ومخلفات ماضوية استوطنت الذهنية والذاكرة والممارسة؟، فجميع هذه الأشياء صارت مثقلة لكاهل عملية الانتقال، وعلى رئاسة البلاد تحرير ذاتها وإدارتها من ربق التعامل مع الحاضر بعقلية ومنطق ما ضوي رجعي وكارثي، فما من شك هو أن العبور إلى المستقبل يستلزمه جرأة وإرادة قوية وملهمة منفتحة على الجميع، فكما قيل بأن عقل الإنسان كالمظلة المغلقة التي لا تعمل وتبرز قيمتها سوى بفتحها.

أخبار اليوم

مقالات الكاتب