وجع تعز.. حصيلة نصف ثورة

لن تستطيع تعـز الإفلات من حالة الفوضى، وليس بوسع احد أن يحلّق بها بصورة منفردة بعيدا، خارج الخارطة المنهكة والمعذبة لبلد ينزف يوميا، ويندفع بشراهة إلى صراعات جانبية، وانقسامات تبدو كما لو كانت تحضيرا لحروب وشيكة وكبيرة.


تخضع المحافظة التي لعبت دورا طليعيا في «الثورة الشعبية» ضد صالح لما يشبه العقاب، فهناك انفلات مدبر من قوى المركز في صنعاء، القوى التي انقسمت على نفسها وظلت قابضة على الحال، كما لو أن الثورة لم تكن أكثر من «زبجة»، ولقد حلت النقمة على تعـز، إذ تبدو جلية في صورة الفوضى التي تعيشها المحافظة. حالات سطو ونهب للممتلكات، وإطلاق كثيف للرصاص، وجرائم قتل، ونزاعات مسلحة أودت بالكثيرين, تلتزم السلطات حيالها الحياد، كما هو الحال في حذران، ومفرق شرعب.


لذلك كان المحافظ شوقي هائل عشية عيد الأضحى يتحدث بمرارة وخيبة أمل عن تجاهل وزير الداخلية لمطالبه المستمرة بالمساعدة لضبط الوضع، مع انه كان يتعين على المحافظ أن يسأل نفسه: كيف يطلب المساعدة من وزير لم يستطع حماية كرسي الوزارة من النهب ومكتبه من الاقتحام؟


ما يحدث في البلاد هو ثمن القبول بنصف ثورة، وثمن الوهم الذي ساقتنا إليه المبادرة الخليجية، والأطماع الصغيرة والمتهافتة، وفساد الضمائر، إذ يستوطن هذا الوباء معظم روؤس قيادات الأحزاب، وما من شي أهم لدى هؤلاء أكثر من حيازة قسمٍ من الكعكة حتى إن كانت الأوضاع تتفاقم وتندفع بالبلاد إلى كارثة محققة.


مهما كانت وجهات النظر بشان المحافظ شوقي هائل، أو حتى التحفظات بشان مساعديه، فالمؤكد أن الرجل يريد أن يعمل ولديه الدافع والحماسة لأن يجعل من تعـز محافظة نموذجية على كافة الأصعدة. ولقد استقبل الناس قرار تعيينه قبل أكثر من ستة أشهر بتفاؤل كبير، وكانوا ينقادون لأحلامهم بعد طول مكابدة لمظاهر انفلات وعربدة لم يسبق للمحافظة أن عاشتها من قبل.


ربما بسبب المسافة التي كان يحرص رجال الأعمال على التزامها مع العمل السياسي، كان شوقي هائل يقع في سوء التقدير عندما قرر القبول بهذه المهمة. غير أن الوعود الباذخة للسياسيين على ما يبدو، بعد توقيع «الصفقة» الخليجية، واللغة المخادعة للمجتمع الدولي بشان «حماية التحول، والانتقال السلمي للسلطة» فعلت فعلها بالجميع.


منذ تعيينه كنت أقول في نقاشات مع زملاء وأصدقاء متحمسين، أن شوقي هو الرجل المناسب، لكنه جاء في التوقيت الخطأ، فلكي يعمل الرجل يحتاج إلى ظروف وأجواء مختلفة جذريا عما هو كائن في تعز والبلاد عموما. وأخشى أن المحافظة وشوقي يخسران فرصة كان يمكن أن تكون مواتية حقا في وضع آخر إذا قُدّر للبلد أن يعبر إلى مرحلة تالية وعهد مختلف والنجاة مما هو اخطر وأمرْ من توابع فخاخ المبادرة.


الآن تبدو خيبة الأمل كبيرة لدى الجميع في تعز. وبالطبع، لم يخطئ الناس في الرهان على شوقي، ولم يفشل الرجل لأنه امتلك الفرصة، وفرط بها. كل ما في الأمر أننا أغمضنا أعيننا واخترعنا ملاذا في الحلم، وحدها قوة الارتطام أيقظتنا من السبات.


ما الذي تغير في البلاد كي يلقي الناس بكل تفاؤلهم إلى تعز؟
سنضطر مجددا لنقول: إن علي عبدالله صالح، الذي يحمل ميراثا ثقيلا من النقمة على تعز، مازال ممسكا بالقسم الأكبر من القوة العسكرية والأمنية عبر ابنه احمد ونجل أخيه يحي واذرعه ورجاله في الجيش والأجهزة الأمنية، ثم إن شريكه في الضفة الأخرى الجنرال محسن بتحالفاته ونفوذه في المؤسستين، ما يزال يعمل تحت لافتة حماية الثورة، ويمسك بزمام نفس القوة والنفوذ. نحتاج فقط إلى تجميع أجزاء صورة النظام قبل «الثورة» لنضعها في إطار واحد، ثم نرى ما الذي حدث لقوى النظام نفسه بعد الانقسام والمبادرة. حتما سنجد أنه ما من تغيير عميق حدث في الواجهة. في سطح الصورة فقط تبرز شقوق وفجوات، الأرجح أنها باتت وسيلة مفضلة لقوى في الداخل والخارج لإبقاء قوى النظام نفسه ممسكة بزمام اللعبة. حتى قيادات الأحزاب مازالت نفسها، بكل خيباتها وهزائمها، وأطماعها، وطريقة تفكيرها، وضيق افقها السياسي، كي لا نقول وفسادها أيضا!


في وضع كهذا، لا يستطيع شوقي هائل أن يكون صاحب القرار الأول كمحافظ، لكن أحيانا ربما تورط بعض المتحمسين له بإظهاره كما لو كان حاكم ولاية، في بلد حاربت سلطته وبعض قواه بشدة فكرة الدولة، وتصرفت كعصابة طيلة 33 عاماً. وظيفة المحافظ في عهد صالح لم تختلف عن وظيفة «العامل» في عهد الإمام، حيث توكل إليه أمور الجباية وتسيير الجانب البيروقراطي، مع صلاحيات كبيرة في الإفساد، بما لا يمس مصالح المركز، الذي يظل دائما صاحب القرار الأول.


لذلك كان لدى صالح دائما محافظا في الظل هو القائد العسكري أو المسؤول الأمني في المحافظة. هذا ما كان سائدا طوال فترة حكم صالح في الجمهورية العربية اليمنية وترسخ أكثر بعد حرب 94 في دولة الوحدة. وقد ظهر كأمر واقع بصورته الفجة أثناء الثورة الشبابية، حيث كان مدير الأمن عبدالله قيران هو المساعد الفعلي لصالح مع مراد العوبلي قائد معسكر الحرس الجمهوري المرابط في المحافظة، ولعب حمود الصوفي دور المحلل!


عهد صالح بكل كوارثه مازال ماثلا، واذرعه ممتدة، وقادة المعسكرات والأجهزة الأمنية بولاءاتهم القديمة هم الأكثر تأثيرا في مهمة إرساء الاستقرار الأمني أو ضربه في الصميم.


كيف يستطيع المحافظ أن يمضي في إعادة الأمور إلى ما كانت عليه على الأقل، في حين تمسك ذات قوى النظام الذي انتفض عليه اليمنيين، بمعسكرات الجيش وقوات الأمن. هي الأدوات التي بواسطتها يتم اليوم ضخ الفوضى وإدارة الانفلات في مناطق البلاد المختلفة، عوض مواجهته!


من غير المعقول أن يترك هؤلاء البلاد، وخصوصا تعز، تمضي إلى شانها في تحقيق الاستقرار، لأنهم أصلا في موقع المتضرر منه، فكيف إذا كان لهم حسابا خاصا مع محافظة «الثورة» ويمعنون اليوم في تصفيته؟


لهذه القوى المختطفة للجيش والأجهزة الأمنية اذرع تدير في تعز انفلاتا منظما، فالأسلحة والأموال تتدفق، وهناك بنادق عاطلة، لبلاطجة، و«مقاليع» و«حماة ثورة»، ونافذين، ومناهضين مزعومين لأمريكا، يعملون لحساب أطراف المركز، ومن مصلحة قوى هذا المركز أن تبقى البلاد وتعز على رأسها عالقة داخل دوامة البحث عن لحظات أمان!


معضلة اليمنيين الدائمة أنهم يتناسون ما هو جوهري وأساسي في مشاكلهم، فيغرقون في تفاصيل جانبية، لاهثين خلف معارك متهافتة وهامشية، وقضاياهم تشكلها التداعيات. هذا ما يسلكه الفاعلون في المشهد السياسي، فهم منهمكون في توزيع «غنائم صغيرة» لثورة لم تكتمل، وتوقفت بلا تحقيق أي هدف كبير. أقسم أنهم يفعلون ذلك وهم يدركون أن البلد يركض بكل مشاكله إلى الجحيم، وأن ما يجري ليس أكثر من تقاسم بقاياه مع النظام نفسه، لكنهم ماضون في بيع الوهم للناس بالحديث عن «بقايا نظام»، ما يزال الجزء الأكبر والأضخم منه حاكما!


فقط عندما يغدو الجيش والأجهزة الأمنية، أدوات لسلطة دولة، وليست ميليشيات وإقطاعيات مملوكة لعائلة وأفراد، يمكن أن نشاهد يمن آخر وتعز مختلفة، أكثر قربا من النهضة الشاملة. مع ذلك يتعين على أبناء تعز بصورة ملحة مساندة مساعي المحافظ التي من شانها في الوقت الراهن التقليل من مخاطر الانفلات على الأقل، والحرص على صورة مدينتهم التي تتلطخ الآن، فبدلاً من الخوض في نزاعات بينية، وهامشية، عليهم العمل لإحياء الهدف الرئيس للثورة: إسقاط النظام الذي لم يصبح سابقا، بعد بتحرير الجيش والأمن من سيطرته أولاً!

مقالات الكاتب