سالمين.. سقطرى.. و"الشيخ والبحر" ١٩٧٢م

سأروي جانباً من سيرة شكلت محطة من حياة طويلة، كان الحوار مشروع العمر بالنسبة لي، خلال حياة طويلة من العمل السياسي والجدال والنقد والحوار والاتفاق والاختلاف، حرصت -من طرفي على الأقل- على ألا تكدرها خصومة الاختلاف ولا تستهتر بها نعومة الاتفاق.

 

الحياة، للذين يعملون، تعج بالمواقف. فيها الصح وفيها الخطأ. ونفس هذه الحياة، بحلوها ومرها، هي التي تفرز الصواب والخطأ، ولو أنها، في أحيان كثيرة، لا تفرق بين من يعملون ومن لا يعملون، لا يعنيها كثيراً في أي الخانات يقف الإنسان؛ ولذلك لا تفرز الصح والخطأ إلا بعد زمن، وبعد أن تكون قد عاقبت كثيرين لا يستحقون العقاب، وكافأت آخرين لا يستحقون المكافأة.

 

الأوطان هي التي لا يجب أن تنتظر فرز الحياة للصح والخطأ بمؤشر مرور الزمن؛ فالفرصة التي تضيع تبدد دهراً بأكمله، وتعرض أجيالا للضياع. والحياة بطبيعتها لا يمكن أن تسير في خط مستقيم للوصول إلى الهدف المنشود. في تفاعل تام مع مجرياتها؛ يكون هناك الخطأ وهناك الصواب. وهما لا يتقرران على الورق، وإنما في التطبيق على أرض الواقع، وبوجود الخطأ يعرف الصواب. فلو لم يكن هناك خطأ لما عرف الصواب، ولو لم تكن هناك معرفة لما عرف للجهل معنى, ولو لم يكن هناك قبح لما سمي الجمال جمالاً... فالشيء يعرف بضده, "وبضدها تتميز الأشياء". حياة البشر لا يمكن أن تستقيم إلا بوجود هذه النقائض معاً، وفي زمن واحد ومكان واحد. وفي إطار المجموعات، سواء كانت ثقافية أو اجتماعية أو سياسية، لا بد من وجود الفكرة وضدها. ففي مثل هذا التعايش بين الأضداد تبقى هذه المجموعات حية ومليئة بالحيوية. المهم أن تعرف كيف تدير تناقضاتها، وكيف تحل خلافاتها. عندما تكشف الحياة، من خلال الوقائع على الأرض، الصواب من الخطأ، على الذين أخطأوا أن يعترفوا بأنهم أخطأوا؛ لأن الفرق بين الخطأ والخطيئة هو هذا الاعتراف من عدمه، ولا يصر على البقاء في الموقع الخطأ إلا الذين لا يقيمون وزناً لأهمية أن نفهم الحياة في حركتها لا في سكونها. والحياة بهذا المفهوم لا تعترف بالصيغ الجامدة التي تدعي التعبير عما يجري فيها، ما لم يثبت ذلك الفعل على الأرض.

 

الجنوب سيبعث من داخله من يحمل قضيته. لا شيء يموت! وبلاد اليمن ستتحول إلى "وطن". واليمن هو الهوية التي نعود إليها حاملين أثقال تاريخ فيه من التناقضات والصراعات ما يجعلنا ميالين دائماً إلى الغضب من كل شيء بحثاً عن لا شيء.

 

شاركتُ في مؤتمر الحوار الأخير، وعملتُ على نجاحه، ودافعتُ عنه، وسأظل أنتقد بقوة التشويه الذي تعرض له، بما مورس في محطته الأخيرة من تكتيكات حملت روائح الماضي. وسأدعو إلى مقاومة كل محاولات تفريغ نتائجه من مضامينها الثورية والمدنية. كما سأواصل الدعوة إلى تصحيح ما خربته اللحظات الأخيرة. لأن الحوار هو مشروع عمري، منذ أيام الشباب، وفي بواكير الحياة السياسية، في ثانوية خور مكسر بعدن، في أوائل الستينيات، حيث كنت لا أرى السياسة غير حوار لا يهدأ، حتى في المحطات التي ينتصر فيها طرف، وتهزم فيها أطراف أخرى، وأنا أشاغب الرئيس سالمين رحمه الله، وكان مسؤولاً عن منظمة التنظيم السياسي الجبهة القومية/ عدن، وكنت عضواً فيها ورئيساً للدائرة الاقتصادية، بعد تخرجي في جامعة القاهرة عام 1971. كان قائداً، يدير التناقضات من حوله ولا يفرض قناعاته ــ ربما لجأ إلى ذلك في وقت متأخر عندما اشتد ضغط المشكلات. سألت في أحد الاجتماعات: لماذا لا يحاور تنظيم الجبهة القومية كل من اختلفوا مع النظام آنذاك؟! هب فوقي بعض أعضاء لجنة المحافظة؛ لكن سالمين قال بلهجته المحببة: "كلام بن نعمان صح، بس يقول لنا مع من نتحاور بالضبط؟"، وهي العبارة نفسها التي سمعتها من الاخ عبد الوهاب الآنسي، بعد ذلك بخمس وثلاثين سنة، عندما ناقشت معه فكرة الحوار الشامل مع مختلف القوى السياسية قبل سنوات من قبول الفكرة بعد ذلك من كثيرين.

 

كان لي صديق من شبوة كثيراً ما حدثني، ونحن طلبة في القاهرة، عن أحداث كثيرة، جرت وتجري يومذاك في شبوة، أدت إلى نتائج اجتماعية شوهت مضامين الثورة، على أكثر من صعيد، حيث ترك الكثيرون ديارهم وغادروا. طلبت من سالمين أن يسمح لي بالذهاب إلى شبوة، في اللحظة نفسها التي أكمل فيها عبارته السابقة، عندما قال لي: "قدم لنا مقترحاً بمن نتحاور معهم". استغرب طلبي؛ ولكنه لم يسألني: لماذا؟ فقد أدرك ماذا كانت تعنيه شبوة في ذلك الحين. وبعد أن وافق، اتصلت بذلك الصديق، الذي جاء من درب "آل بو طهيف" ـ درب الفلاحين، حيث كان يزور والده المريض، والتقينا في عتق، وزرنا يشبم، والصعيد، وخورة العليا والسفلى، ومرخة العليا والسفلى، وحطيب، والهجر، ونصاب، وجزءا من عرمة، ومررنا على كور العوالق، في رحلات يومية مضنية، وزرنا بيحان، وعسيلان، ووصلنا إلى قريب البلق، وعدنا إلى عزان، وميفعة، وعين، والنقعة، وبئر علي... سجلت وقائع كثيرة منها تلك الربوع المهجورة عن بكرة أبيها والمخيم عليها حالة من السكون، والتي بدت كوشم أخذ الزمن يمحو ملامح خطوطه من على ظهر كف تغضن جلده بقسوة الحياة. سلمتها للرئيس سالمين، وما زلت أحتفظ بنسخة منها إلى اليوم. وفيها قلت إن العودة إلى الحوار هو الوحيد الذي سيفتح طريقاً إلى قلوب لن يترك اليأس أمامها من سبيل سوى المقاومة. بعد أسبوع، وأثناء اجتماع لجنة المحافظة، قال سالمين، مخاطباً أعضاء لجنة المحافظة، فجأة: "با نرسلكم يا أعضاء لجنة المحافظة إلى سقطرى، كل واحد يبقى لمدة شهرين هناك، والجدول بايطلعكم عليه الأخ علي سالم لعور"، وكان الأخير نائباً للرئيس سالمين في قيادة منظمة التنظيم في محافظة عدن. كنت على رأس القائمة، وكان عليَّ أن أغادر إلى سقطرى مع أول طائرة تطير إلى هناك، أي بعد أسبوعين على الأقل. في الاجتماع، الذي أعقب القرار، سألت سالمين عما هو مطلوب مني أن أعمله في سقطرى، قال: "شوف أحوال الناس واقرأ وفكر في الأشياء التي ما قدرتش تفكر فيها في الزحمة، هناك هدوء". لم أعتبر ذلك عقاباً، مثلما اعتبره الآخرون، فقد كان عندي يقين أن لسالمين هدفا آخر؛ ولكنني كنت في غاية الحنق، بعد أن تملكتني حالة من الشك؛ ففي اللحظة التي سمعتُ فيها مبرر الذهاب ربطتُ بين القرار وإلحاحي على الحوار، بعد زيارة شبوة. ومع ذلك، كنت لا أرى إلا أن لسالمين هدفا آخر غير العقاب. وحتى عندما حاول الأخ علي سالم لعور -الشهيد بعد ذلك في أحداث 1978- أن يلتمس لي عذراً للتأجيل، رفضت وأصررت على الذهاب في الموعد.

 

أمضيت في سقطرى شهرين بين الجبل والبحر. لم تكن سقطرى، يومذاك، مكاناً للتأمل؛ إلا بمقدار ما تكون قادراً على أن تغمض عينيك وفؤادك عن معاناة الناس، في تلك الفترة المبكرة. ومع ذلك، قرأت كثيراً، ومن أهم ما قرأت رواية "الشيخ والبحر" لأرنست همنجواي؛ فالصياد العجوز يصطاد بقاربه العتيق الصغير سمكة ضخمة لم يستطع أن يسحبها إلى قاربه، وإن استطاع، بمعجزة ما، فلن يتسع لها القارب، وقرر أن يشدها إلى ظهر القارب كي تساعده الأمواج في سحبها إلى الشاطئ. في الطريق إلى الشاطئ، هاجمت أسماك القرش سمكته. قاومها بقوة وعناد شديدين.. قاوم، وظل يقاوم، حتى وصل إلى الشاطئ، ولم يكن قد بقي من سمكته غير هيكل عظمي.

 

بعد أن عدتُ من سقطرى بأيام، عرفت أن جدول زيارات سقطرى لمن تبقى من الأعضاء، قد أُجِّل إلى أجل غير مسمى. وفي لقاء مع سالمين، سألني باقتضاب عن سقطرى، فقلت له: المهم ألا تصل إلى الشاطئ بهيكل عظمي. وأعطيته الرواية، وكان يقرأ كثيراً.

 

لم يعد لدينا خيار سوى أن نعبر المضيق، ونصل إلى الشاطئ، إلى حيث ينتظرنا "وطن" مؤجل؛ ولكن علينا أن نحسب حساب ألا نصل إليه بهيكل عظمي.

سالمين.. سقطرى.. و"الشيخ والبحر"

مقالات الكاتب