ذكرى ثورة الدستور 1948.. دماء وتضحيات في محراب الحرية

المدنية أونلاين/فؤاد مسعد/خاص:

 

 

تكتلت قوة الدنيا بأجمعها  

في طعنةٍ مزقت صدري وما فيهِ

 

أنكبةٌ ما أعاني أم رؤى حلمٍ

سهت فأبقته في روحي دواهيهِ

 

أعوامنا في النضال المرّ جاثيةٌ

تبكي النضال وتبكي خطب أهليهِ

 

الشاعر الشهيد/ محمد محمود الزبيري

عن ثورة الدستور بعد سقوطها

 

بالأمس مرت بنا الذكرى الـ72 لثورة الدستور اليمنية (17 فبراير/شباط 1948) ضد حكم الإمام يحيى بن محمد حميد الدين، التي استمرت قرابة 20 يوماً فقط ثم انقضّ عليها نجله الإمام أحمد بعدما حشد في صفه الجهل والشائعات وأغرى أتباعه بنهب صنعاء، وهو ما تم أثناء سقوط الثورة.

منذ سنوات طويلة ثار الجدل حول ثورة الدستور، بين من يرى أنها حركة ومن يعدّها انقلاباً، فيما رأى آخرون أنها ثورة استوفت كل شروط الثورة، وتسمى ثورة الدستور لأنها ارتبطت بالدستور مفهوما ونصوصاً، من خلال الوثيقة التي اختطها الثوار إطاراً نظرياً للحكم لأول مرة في اليمن، وعرفت باسم "الميثاق الوطني المقدس".

بدأت الأحداث بعدما أعد الأحرار اليمنيون الذين كان أغلبهم في عدن، خطة للاستيلاء على الحكم وإقامة "إمامة دستورية" فور وفاة الإمام يحيى حميد الدين الذي كان عمره يناهز  80 عاما، وشرعوا يرتبون للمرحلة المقبلة، من حيث اختيار اسماء أعضاء الحكومة وكبار مسؤولي الدولة بعد التوافق على اختيار  عبدالله بن أحمد الوزير إماماً دستورياً، غير أن ما لم يكن في الحسبان أن ولي العهد الأمير أحمد بن يحيى حميد الدين حاكم تعز حينها تمكن من اختراق صفوف الثوار  ومعرفة مخططاتهم، وحين تأكد من ذلك أوعز لبعض الصحف من خلال الأشخاص الموالين له خبرا كاذبا مفاده أن الإمام يحيى توفى، فنشرت الصحف الخبر، وتسربت بعدها خطة الثورة وأسماء الحكومة، ما جعل أوراق الثوار مكشوفة خاصة أن الصحف وصلت إلى صنعاء وتعز، وحينها طلب الإمام يحيى من نجله الأمير أحمد المجيء إلى صنعاء لمواجهة الأمر، ولكن نجله الماكر تباطأ ولم يستجب لوالده، فوضع الثوار خطة عاجلة تهدف إلى قتل الإمام وولي عهده وإعلان الثورة، لأن أي تأخير ستكون عواقبه وخيمة، نفذت خطة اغتيال الإمام يحيى من قبل الشيخ الثائر علي ناصر القردعي الذي نصب كميناً للإمام أثناء جولة له في منطقة (حِزْيَزْ) جنوب العاصمة صنعاء، بينما فشلت خطة اغتيال الأمير أحمد، الذي بقي في تعز حتى وصله الخبر الذي كان في انتظاره (مقتل أبيه برصاص الثوار)، ثم تحرك صوب الحديدة ومنها إلى حجة وظل يحشد أنصاره ويحرض ضد الثورة وقيادتها، مستغلا جهل الشعب في إطلاق الشائعات التي انطلت على الغالبية، منها أن الثوار اختصروا القران الكريم، وأنهم مدعومون من النصارى خارج البلاد، وقد ثبت لأئمة الدولة الزيدية منذ نحو ألف سنة أن إثارة حفيظة الشعب اليمني تجاه المقدسات الدينية هو أكبر محرض لإجبار العامة على خوض المواجهة مع الخصوم المتهمين بارتكاب أعمال مسيئة للإسلام ومقدساته.

وبعد 21 يوما تمكنت المجاميع التي جلبها أحمد حميد الدين من إسقاط العاصمة صنعاء ومعها سقطت ثورة الدستور، وأعلن السفاح أحمد نفسه إماما جديدا ولقّب بالإمام الناصر، وأعلن تعز عاصمة لدولته.

سيق الثوار إلى السجون في حجة وصنعاء وتعز وذمار ، وارتكب الإمام الجديد وعماله أبشع الجرائم بحقهم، خاصة قادة الثورة الذين نفذ في أغلبهم حكم الإعدام، ويزيد عددهم عن 30 ثائر أبرزهم عبدالله الوزير والضابط العراقي الشهيد جمال جميل، الذي اختار  البقاء في اليمن والمشاركة في الثورة بعدما رأى الأوضاع المأساوية، وعندما حانت لحظة إعدامه أجبر زبانية الإمام أحمد طلاب الكلية العسكرية على حضور الإعدام لرؤية أستاذهم وهو يواجه الموت لإشاعة الرعب والخوف في نفوسهم.. وكان ذلك في ميدان التحرير (شرارة سابقاً) وسط صنعاء، التفت الشهيد جمال جميل إلى طلابه وودعهم بنظرته الأخيرة قائلا: لا يخيفكم دمي الذي سيُراق يا أولادي.. وروى بدمه الطاهر تربة اليمن مخلدا سيرة بطل عربي وقائد شجاع آثر الانتصار لأمته العربية في مواجهة الطغيان الإمامي.

أعدم السفاح أحمد بعدها حسين الكبسي وزير خارجية الثورة ورواد النضال الوطني أمثال: أحمد الحورش وأحمد البراق ومحمد المسمري، وزيد الموشكي ومحي الدين العنسي، وفي فترة لاحقة أُعدمت دفعة أخرى من الثوار  منهم الحاج غالب الوجيه ومصلح هارون ومحسن هارون، وعلي بن عبدالله الوزير.

وبقي المئات في سجون الإمامة بعضهم ظلوا سنوات عدة فيما توفى بعضهم ومنهم الأمير إبراهيم بن الإمام يحيى الذي انشق عن والده والتحق بالأحرار وعين رئيسا لمجلس شورى الثورة، واشتبه المعتقلون في وفاة الأمير مسموما بتدبير من أخيه الإمام أحمد الذي لم يكن ليتورع عن قتل أقرب الناس له في سبيل العرش كما فعل بعد ذلك حينما أعدم أخويه عبدالله والعباس في العام 1955.

وأخيراً..

ستبقى ثورة الدستور حدثاً مهماً في التاريخ اليمني الحديث والمعاصر، ورغم أنها فشلت في تحقيق أهدافها، وسقطت بعد أيام قليلة من انطلاقها إلا أنها نجحت في تمزيق هالة القداسة التي كان أئمة الجور يحيطون أنفسهم بها، ولم تمض سنوات قليلة حتى كانت ثورة الـ26 من سبتمبر 1962 التي أجهزت على الحكم الإمامي المتخلف وأعلنت إقامة النظام الجمهوري.